ومـا هـو دور الـروح ؟
ان للروح القدس دورًا كبيرًا بل جوهريًا في حضن الثالوث. إنه المحبة الجوهرية التي تربط الآب بالابن وتقيم الوحدة في الثالوث. في العنصرة، اكتمل فصحُ المسيح، واكتمل أيضًا وحي الثالوث القدوس، وانفتح الملكوت امام الذين يؤمنون بالمسيح. والروح القدس بمجيئه، أدخلَ العالم في " الأزمنـة الأخيرة " : زمان الكنيسة وزمان الملكوت الذي صار ميراثًا لنا منذ الآن، على ان نحياه ونكتسبه كل يوم. ومنذ العنصرة، اصبحت الكنيسة في " زمان الروح ". وقد دعا المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني إلى " فك قيود" هذا الروح الإلهـي، لتنقية هواء الكنيسة وفتح رئتيها لاستقبال هذا النسيم العليل والمنعش.
وكما قام الروح القدس بدور كبير في حياة يسوع الأرضية وفي رسالته الخلاصية، منذ البشارة حتى الصعود، كذلك يقوم اليوم، وإلى انتهاء الأزمان، بالدور نفسه تجاه كنيسة المسيح، التي هي استمرار له ولرسالته في العالم، وذلك منذ انطلاقتها الأولى في العنصرة، وهو يرافقها في مسيرتها الطويلة والشاقة عبر الأجيال، ويقوّيها إبان المحن والصعوبات والاضطهادات، ويلهمها ما يؤول إلى خير البشرية وخلاصها. إنه ينيرها ويقودها ويلهمها لكي تتّخـذ القرارات الضرورية للبقاء أمينة تجاه رسالتها في العالم، ولكي تستمر على إعلان الحقيقة بشجاعة للبشرية كلها. فالروح يعمل دومًا في الكنيسة لبناء ملكوت الله. فإن عملية الخلق الجديد قد بدأت، وهي ستتواصل مدى الأجيال بإرشاد الروح القدس. وعمله الخلاصي يُبنى على المحبة.
وهنا أتساءل هلاّ يكون الروح هو الذي انار الكنيسة لكي تعلن وتفضح الخطايا المميتـة السبع الجديدة التي تهدّد كيان البشرية كلها، ابتداءً من خطيئة تلويث البيئة وانتهاءً باستغلال الصغار، ومرورًا بخطيئة المخدّرات التي باتت الآن الخطر الأكبر على صحة البشرية وبقائها.
إن الكلام عن الروح جميل بل رائع، ولكـن...
أين كنيستي من حضور الروح الحي هذا، ومن عمله الخلاّق، ومن مبادراته التي ترمي إلى مواصلة رسالة المسيح في العالم، من خلال كنيسته المقدسة ؟
إن ما يؤلمني إلى الغاية هو الشعور بأن الروح غائبٌ عن كنيستي، أو لنقل بالأحرى ان كنيستي غائبة عن الروح، وهي تحاول تنظيم شؤونها وتسيير أمورها وحدها. ويبدو ان رؤساء كنيستي نسوا أو تناسوا ما يقوله المســـيح : " بدوني لا تستطيعون ان تعملوا شيئًا " (يو 15/5). وهذا القول ما يزال ولن يزال نافذًا حتى منتهى العالم. لكن لكنيستي مصالحها الخاصة ونظرتها الخاصة إلى الأمور، وقد تفضّلها على مصالح الله ومصالح الكنيسة الحقيقيـة.
السـينـودس :
يُعقَـد في كنيستي، بين فترة وأخرى من السنة، سينودس، أي مجمع كنسي يضمُّ غبطة البطريرك والسادة الأساقفة الأجـلاء. ومن حيث المبدأ لا يحق حضوره لأشخاص آخرين، من الاقليروس كانوا أو من العلمانيين، وكأن السينودس أمر لا يعنيهم ! وهذا أيضًا قابل للطعن والتصحيح.
إن كنيستي، شأن كل مؤسسة وكل شخص، فرديًا كان ام معنويًا، تحتاج إلى ان تلقي على ذاتها نظرة فاحصة، لترى أين هي من مسيرتها ومن اهدافها، وهل هي تواكب ركب التقدم والتجدد في عالم يتطور بسرعة رهيبة. فكنيستي تحتاج إلى دراسة شؤونها دراسة جدية، وعدم ترك الأمور تجري فيها بحسب الظروف الطارئة. والسينودس مجال لها للقيام بهذه الدراسة واتّخاذ قرارات ضرورية تدل على دينامية الكنيسة وتدفعها إلى عدم الاستسلام إلى الركود والجمود والاكتفاء بشعارات قديمة والتمسك بتقاليـد محترمة، ولكنها تحتاج إلى شيء من التكييف والتأويـن، في سبيل التجاوب مع احتياجات المؤمنين المعاصريـن.
بلغ سمعي ان لكنيستي الآن لجنة اسقفية تشرف على إعداد السينودسات. وهذا امر يستحق كل التقدير والثناء. وكم اتمنى ان تدرس هذه اللجنة شؤون الكنيسة واحدًا فواحدًا بصورة جدية تتمخض عن قرارات واضحة تؤول إلى خير الكنيسة وليس إلى مصالح خاصة. وكم اتمنى ان تُعدَّ اللجنة كل سينودس إعدادًا وافيًا، بورقة عمل واضحة تشير إلى محاور الدراسة في السينودس وتوزَّع على السادة الاساقفة قبل انعقاد المجمع بمدة كافية، لكي يتدارسها كل اسقف مع كهنتـه ومؤمني ابرشيته، لتكون القرارات منبثقة من داخل الكنيسة، يثيرها الروح القدس الحال فيها، ولا تكون مفروضة من فئة معيَّنـة. وليت رؤساءنا الكرام يطلعون الكهنة والمؤمنين على ما يجري في كل سينودس، عن طريق اعلانات واضحة وصريحة وقابلة للنقاش، قبل ان تصبح القرارات ملزمة. فلكل مؤمن في الكنيسة الحـق في الاطّلاع على شؤون كنيسته وعلى مسيرتها وعلى احتياجاتها، وكذلك على ميزانياتها. أجل، نريد ان نعرف إلى أين تذهب واردات الكنيسة أو الكنائس، وكيف تُصرَف، وما حصة الفقراء منها ؟
لكني الاحظ ان المجامع الأخيرة في كنيستي كادت ان تقتصر على دراسة امور تتمحور حول قضية انتخاب أساقفة جدد لملء الشواغر في الأبرشيات المترملة. لا بأس ! فان الصفة الرسولية في الكنيسة تقتضي خلفاء للرسل على مدى الأجيال ! ولكن كيف تجري هذه الترشيحات والانتخابات ؟ هنا تظهر المأساة المخجلـة في كنيستي. فان الروح يبدو غائبًا، والرغبات البشرية تهيمن على تقديم المرشحين، والاعتبارات المصلحية تلعب دورها المعيب، والسيمونية ليست غائبة في مثل هذه القضايا الحيوية. اما الدولار فغالبًا ما تكون له الكلمة الحاسمة في المواقف الصعبة أو المترددة. وهناك من أعضاء السينودس من يلوذون بالصمت الجبان ازاء هذه التصرفات المدمِّرة للكنيسة. فمتى كانت العنصرية أو المحسوبية من الأمور التي تسهم في بنيان الكنيسة ؟ وأين صوت الحق امام هذه الألاعيب المشينة ؟ فيا للغرابة ! ان بعضهم – قد يكون البطريرك نفسه – يرشحون للاسقفية اشخاصًا لا تتوفر فيهم أدنى قسط من الفضيلة والعلم والروح الانجيلية. وليس من يرفع صوته ويحتـجُّ بل ويرفض مثل هذه المخالفات التي تسهم في تدمير الكنيسة ؟ اما يكفي كنيستي ما عاشته طوال الأجيال، وبالأخص في هذه الحقب الأخيرة من الشر والأذى من جراء رعاة غير جديرين بهذه المهمة الجليلة ؟ كنيستي بحاجة إلى رجال يملأهم الروح بمواهبه ويدفعهم إلى العالم لينشروا فيه روح الانجيل. وأين شجاعة أساقفتنا ليرفعوا اصواتهم، مثل يوحنا المعمدان امام هيرودس، ويقولوا للمسؤولين : لا يحق لكم ان تفعلوا هذا ! ايها السادة الأجلاء، رحمةً بالكنيسة، وعطفًا على المؤمنين، واستجابة مع الضمير المستقيم، اعتصموا بالحق والعدل والأخلاق الحسنة. ايها السادة، كفانا ما نعانيه من المعاثر التي تطرق سمعنا والصادرة عن بعض أساقفتنا، على مسمع من غبطة البطريرك ومن اعضاء السينودس المقدس. فمن المسؤول عن هذه الجرائم ؟
أُعيد واكرر ان كنيستي بأمس الحاجة إلى رسل يتولاهم روح الرّب، فيعكفون على نفض الغبار المتراكم على وجه عروس المسيح، ويوقظون فيها الدينامية الرسولية، فتتفجّـر في عنصرة جديدة يحتاج اليها عالم اليوم ؟
فيا صاحب الغبطة، ويا ايها السادة الأساقفة الأجلاء، إلا يكفي التآمر على كنيستي المسكينة التي اوصلتموها إلى الحضيض. انكم بهذا تدمّرونها أكثر مما فعله ويفعله الارهابيون من الخارج. ألم يبق من يشعر ويتفهم عناء هذه الكنيسة ويرحمها ويساعدها في مسيرتها المتعثرة ؟ فكنيستي لا تحتاج إلى دمى تحركها اصابع غريبة، أو تغريها الاموال المتدفقة، ولا إلى أصنام متوَّجـة، بل تفتقر إلى رعاة صالحين وإلى آباء محبّين، وإلى قادة واعين بمسؤولياتهم الخطيرة وقادرين على مجابهة الظروف الحرجة. كنيستي لا تحتاج إلى رؤساء تحيط بهم هالة من الأبهة والعظمة ويريدون ان يحكموها كالأمراء والملوك ويتحكمون في حياة المؤمنين ومصائرهم من داخل ابراجهم العاجية ومطرانياتهم الفخمة البعيدة عن فقر الانجيل...
لقد شبعت كنيستي من الشدائد التي تتعرض لها من الخارج. وهي تنتظر من آبائها الكرام وقادتها ان يكونوا اعوانًا لها لا فراعنة، وان يبذلوا ما في وسعهم في سبيل معالجـة جروحها الكثيرة التي ما تزال نازفـة وهي تنتظر السامري الصالـح !.
ب- وضـع كنيستـي اليـو م