الكاهن والعزلة
ان كاهن اليوم، سواء كان في المدينة أو في القرى والأرياف، يعاني من عزلة رهيبة. فهو يشعر بكونه مهمَـلاً ومتروكًا وشأنه. فلا يتلقى تشجيعًا ولا توجيهًا ولا تنبيهًا مـن رؤسائه المسؤولين عنه، ولا من اخوته الكهنة الذين لا يلتقيهم إلا في مناسبات (أكاليل، دفنات، الخ...) واحيانًا لبعض جلسات المرح بين بعض الكهنة... فلا غبطة البطريرك، ولا السادة الأساقفة الأجلاء يبدون اهتمامًا أبويًا بالكاهن. انما اهتماماتهم تنحصر في الامور الرسمية وفي نطاق اشغالهم أو مصالحهم الخاصة. اما الكاهن، فعليه ان يتدبر شؤونه. لكن الويل له إن زلّت قدمه قيد أنملة، فتنهال عليه التوبيخات والتقريعات والإجراءات التي لا ترحـم !
وبالنتيجة فان كاهن اليوم، ما لم يكن له أساس عميق في المسيح وحياة روحية متينة، يتصرف كما يشاء، ويقوم بأمور تطيب له، بل ينجرف وراء أمور مخالفة لدعوته ورسالته الكهنوتية، أو انه ينصرف إلى حياة كسل ونوم، وكأنه لا هدف له في الحياة ! والحياة التافهة التي يعيشها تقود حتمًا إلى نوع من الركود والتشاؤم والتذمر على الكل وعلى كل شيء، وربما إلى الندم على اختياره هذه الطريقة من الحياة، ولكن لاتَ ساعة مندَم !
ربما سيرى البعض من القراء الأحباء في كلماتي هذه شيئًا من المبالغة أو مسحة من التشاؤم. لكني استند فيها إلى خبرتي الشخصية، وإلى خبرة العديد من اخوتي الكهنة الذين يدلون بشهادات عفوية عن احوالهم ومعاناتهم وعن الصعوبات التي يتعرضون لها في سبيل الالتزام بالحياة الكهنوتية والقيـم الانجيلية التي تعهدوا بالسير على نهجها.
فيا أبانا البطريرك، ويا سادتنا المطارنة الأجلاء، إلى متى تتركون كهنتكـم في هذه الحال، التي تنعكس حتمًا على رسالتهم، بل على حال كنيستي كلها، وهي سائرة نحو انحطاط مستمر، وهي بأمس الحاجة إلى من يُنهضها ويرفع شأنها. وهل لديكم، يا اصحاب الغبطة والسيادة شيء اثمن وافضل من الكنيسة التي ائتمنكم المسيح عليها، والتي سيطالبكم ويحاسبكم يومًا على طريقة رعايتكم لها ؟ فالكنيسة أولى من مهماتكم الشخصية، وأفضل من جميع مصالحكم، واثمن من كل الكنوز والمقتنيات التي تركضون وراءها والتي تمارس على بعض منكم، ويا للأسف الشديد، تأثيرات بل ضغوطًا عاتية، حتى تكاد ان تستعبدهم ! ألم يحن الأوان لكي تفكروا في إنقاذ كنيستكم من حالتها البائسة ؟... عسى ان يكون السينودس القادم فرصة مؤاتية يقدّمها لكم ربُّ الكنيسة لمزيد من الإهتمام بها.
4- الشمامسـة والعلمانيـون
إذا انحـدرنا درجة أخرى في الهرم الكنسي وفي السلطة التراتبية في كنيستي، التقينا الشمامسة والعلمانيين.
أما " الشمامسة الانجيليون " فعددهم ما يزال قليلاً في كنيستي، ومعظمهم موجَّه نحو الكهنوت. أما الآخرون، مع الشمامسة الرسائليين والقارئين وغيرهم، فدورهم يكاد يقتصر على اشتراكهم في الاحتفالات الليتورجية. إنهم ينعشون الصلوات الفرضية صباحًا ومساء، وينظمون القداديس والاحتفالات الدينية الأخرى. وبعد ذلك، لا شأن لهم في الأمور الكنسية، بل عليهم ألا يتدخلوا في هذه الشؤون الخاصة بالأساقفة والكهنة، وان يعودوا إلى مواضعهم واشغالهم وعوائلهم في العالم، ويتركوا الكهنة أحرارًا في تدبير الكنيسة وشؤونها كما يشاؤون.
أما " المؤمنـون "، الذين يُطلَق عليهم لقب " العلمانيين "، فإنهم يشكلون القاعدة في هرم الكنيسة، ولكنها قاعدة واسعة وراسخة اليها يستند بنيان الهرم الشامخ. الا ان هذه الشريحة من الكنيسة لا تحظى في الغالب بالقدر الكافي من المسؤولية والعمل في كنيستي. قالوا وقلنا ونقول ان كنيسة المسيح لا تتكون من الرؤساء على مختلف أصنافهم فحسب، بل من جميع المنتمين اليها، من كل الأعمار والأجناس والأعراق والألوان والذهنيات والقوميات. كنيسة المسيح تضمُّ جميع المعمَّدين بالماء والروح، بالفعل ام بالشوق. وعلى جميع أبناء كنيستي ان يشتركوا في بنيانها وتقدّمها وازدهارها، وان يتعاونوا لجعلها على مستوى مسؤولياتها في عالم اليوم، فيظهر وجه الكنيسة من خلالهم بهيًّا ومشعًّا ومتفائلاً ومفعمًا بالدينامية.
كلنا نعلم ان كل مسيحي، بفعل عماده وتثبيته، كاهن ورسول في هذا العالم. ومن ثمة عليه الا يستسلم إلى الراحة طالما هناك أناس يحتاجون إلى نور الانجيل. لذلك يترتب على كنيستي ان تكون حية ونشطة ودينامية من خلال جميع فئات مؤمنيها. فإن روح العنصرة هو الذي يهبُّ عليها وينعشها ويدفعها إلى غزو العالم للمسيح وللقيم الروحية السامية. فعليها ان تعطي المجال دومًا لروح الله ليقودها حيث يشاء، وان تبذل جميع جهودها لكي تتجاوب مع نداءات هذا الروح الإلهـي ومع متطلبات دعوتها في العالم. عليها ان تكون ساهرة على حقيقة المسيح : ان تحياها وتعلنها وتدعو الجميع إلى الانضمام اليها. فإن رسولية الكنيسة تظهر في حيوية أبنائها المؤمنين والتزامهم الأمين بجميع واجباتهم، وبالسهر على صفاء الحياة الروحية والتعليم الإنجيلي فيها، وألا يعطوا مجالاً لفئات غريبة لكي تصطاد فيها في الماء العكر، فتزرع فيها الزؤان، وتجتذب بعضًا من أبنائها بمختلف الوسائل، ولا سيّما بالوسائل المادية، بينما تستسلم كنيستي إلى حياة الكسل والنوم. ولا يحق لكنيستي ابدًا ان تنحي باللائمـة على هذه الفئات، بل عليها ان تكون أكثر منها إشعاعًا ودينامية وجاذبية، من خلال مختلف الفعاليات التي من شأنها ان تجتذب الناس وتقرّبهم مـن المسيح.
فيا كنيستي الحبيبة، انكِ مؤتمنة على المسيح. وإذا كان المسيح هو الكرمة الحق، فالمؤمنون كلهم اغصان في هذه الكرمة المقدسة. والجذع وحده لا يثمر، والاغصان وحدها لا تثمر، ما لم تكن متّصلة بالجذع، وما لم تتلقَّ منه الماوية المنعشة. وإذا كانت كنيستي سر المسيح للعالم، فالمؤمنون هم قنوات لنقل هذا السر إلى العالم. وكم يطيب لي هنا ان أتبنى كلمة الطوباوي الجديد الأب يعقوب الكـبوشي الذي قال : " عارٌ على المسـيحيين إن استراحوا، بينما يتعب أهل العالم ! ".
واقول لمؤمني كنيستي الأحباء : انتم مسؤولون عن كنيسة المسيح على أرض البشر. فلا يحق لكم ان تتنازلوا عن هذه المسؤولية مهما كانت الذرائع، بل اضطلعوا بها بكل قواكم، وسيروا في خدمة كنيستكم وفي إنعاشها، ولا تتوقفوا امام المعاثر والشكوك التي قد تلاحظونها في سلوك البعض من اخوانكم أو رؤسائكم. المسيح هو هو، امس واليوم وإلى الابـد، وسيبقى مع كنيسته إلى انقضاء العالم. فلا يخيفنَّكـم شيء، ولا يقلقنَّكـم شيء : الله وحـده يكفي، كما قالت القديسة تريزة الكبيرة.
وما شأن الرهبـان والراهبـات في كنيستـي ؟