قصة قصيرة
بقلم عامر خوراني
المغفلون الصامدون
لم يكن دوي المدفع يسمع من قريب بينما وميضه كان يشاهد بعيدا من أماكن عالية. تعتيم الذي لف تلك المعارك، قادني إلى سطح دارنا لعلني أشاهد صورة حية، تاركا الألوان تجف دون اهتمام على لوحة التي شرعت برسمها على أضواء الشموع، ، كما صرت اقفز دون هوادة من محطة لأخرى في جهاز راديو لسمع خبرا يذاع لما يحدث، بينما شدت أذني صوت طلقات نارية متفرقة تطلق خلف بيوت كثيرة التي امتدت عبر المدينة في كل اتجاهاتها.
دبت حركة غير اعتيادية في الشارع الرئيسي لسيارات ترزح تحت ثقل حمولتها، اعتقدناها ذاهبة لكسر طوق الهجوم الذي انتشر خبر وقوعه على المدينة من كل جوانبها.
اعتلت الأصوات في نسمة هواء ذلك الليل الربيعي، عجت الأزقة بالناس الذين خرجوا من بيوتهم اثر قلق الذي التصق بحرارة أجسادهم التي كادت ان تغطس في نوم مبكر لان عيد الفصح كان ينتظرهم في صبيحة اليوم التالي وكان عليهم النهوض فجرا للذهاب الى مشاركة طقوسه.
سارعت الأرجل نحو الطريق الخارج من المدينة، بعيون سائغة نحو السماء وأذان مفتوحة لسماع حقيقة الحدث الذي ضاع وسط ضوضاء التي طغت في ذلك الوقت المتأخر وبين تقاطع الأخبار المرعبة التي انتشرت مع انتشار رائحة البارود المحترق.
دوي مدفع صم الأذان لم يكن بعيدا هز المكان، اعتلى من بعده صوت تصفيق الأيادي وحماسة الأغنية الوطنية الكردية ( ئه ى ره قيب) بأصوات عالية مع انتشار خبر مدفع المقاومة الذي اخذ يطلق قذائف على دبابات حرس الجمهوري. طلقة ثانية تلتها بدقائق قليلة، شهد بريق نارها الذي بدد سواد الليل، ورائحة باروده جعلنا نشك بشيء قريب منا يحترق، لكن الحماسة القومية اعتلت على الخطر المحدق وسحرت ببريق النجوم التي كانت تشاهد بوضوح اثر انقطاع تيار الكهرباء عن مصابيح الشوارع والمدينة بأسرها بعد دمار الذي لحق بدوائره منذ اندلاع الانتفاضة.
ذيع خبر صد الهجوم وكسر طوقه ناقصا، مع الحديث عن جثث العدو المحترقة وسقوط طائرتين، تدمير عشرات العربات بينما ازدادت حركة الناس الهاربين، حاملين كل ما خف حمله ملتفتين مع خطوتهم الى الوراء كأنهم في ذهاب بلا عودة لإلقاء نظرة الوداع، دون ان يتحدثوا عن ما شاهدوه سوى بإشارات من أياديهم ملوحين للهرب من شيء مخيف يلاحقهم ولا يريدون ان يهدروا الوقت بالتفاصيل ليبتعدوا قدر ما أمكنهم من المسافات، رعب اخرس لسانهم غير عابئين لتعب الذي أنهك قواهم يجرون خلفهم أولادهم في وضع مقلق، هربوا مترجلين من الجهة الثانية للمدينة التي تبتعد مسافات طويلة مستغرقين ساعات في المشي.
اقتربت الساعة من منتصف الليل لا جديد في المذياع سوى أغاني السبعينات لام كلثوم ، وإذاعات النظام كعادتها لا تبث سوى أخبار إنجازات القائد لقمع شعبه في الجنوب، وأخرى تمجد انتصاره على دول العالم المتحالفة ضده.
بينما جفت ألوان الفرشاة التي تركتها في وضع سيء بعد ان اقتربت لوحتي من الكمال من بعد ان وجدت شخص الذي بحثت عنه طويلا، لرسمها بملامحه التي عبرت فرح التحرير من براثن النظام الذي كان قد جلس طويلا على صدورنا. وفي جلستين متتاليتين كنت نقلت وجه المشرق وأمال التي بدت تشع على شكل أطياف لصورة النغمات وكاد يسمع صوت اللون بكل وضوح في تلك الاشراقه التي لم نتعود عليها.
اقتربت أصوات صارت تسمع طلقات كثيفة بوضوح، مدفع الذي كنا نصفق لشجاعته صار يدب الرعب في نفوسنا بعد ان سقطت قذيفته بعد أمتار منا، هربوا الذين كانوا يتغنون على ألحانه في لمحة بصر، ابتلعتهم الأرض كما الفئران تختبئ في باطنها من شدة الانفجار الذي هز المكان، أحدث دويا شديدا ليختم نشرة الأخبار في صورتها الكاملة، حيث كان يستهدف غفلة حماسنا بينما قادة الأحزاب كانوا يهربون عوائلهم وينقلون ما حصدوه من الغنائم بصخب تلك السيارات التي كنا نصلي من اجل سلامة مهمتها.
سلمت لوحتي من الدمار الذي طالته قذائف المدافع، لكنها بقيت ناقصة في ملامحها التي اختلفت في اللمسات الأخيرة، كان علي البحث من جديد عن وجه جديد يحمل حزن العالم ورائحة البارود بين الذين انشغلوا في البحث عن أحبابهم وسط أكوام من الجثث الذي سقطوا فوق بعضهم بين ألوانها.