في اربيل : عنكاوة .. الجميلة تغازل الفتى العراقي
« في: نوفمبر 01, 2011, 10:30:50 pm »
--------------------------------------------------------------------------------
في اربيل :
عنكاوة .. الجميلة تغازل الفتى العراقي
حسب الله يحيى
(1)
جميلة وفاتنة وبهية .. تلك الناحية التي تتسع ناساً وأماكن كل يوم ..
ذلك ان هذه الناحية التي تحمل اسم ( عنكاوة ) لم تعد تنحو نحو الانزواء والانكماش على من فيها من الاخوة المسيحيين، الذين وجدوا أنفسهم على مشارف مدينتهم اربيل في اقليم كوردستان ، لذلك شرعوا كل الابواب ليس لاحتضان أقاربهم وأطيافهم فمن ضاقت بهم السبل، وحوصرت حمائم السلام الذي يعشقون الحياة فيه حد الموت، وإنما صارت مدينتهم عنكاوة، موطن كل المضطهدين والمهمشين والمغيبيين وممن اقصوا عن حركة الحياة، وهددوا ورشحوا للقتل قبل افول الشمس.
عنكاوة .. مدينة اثيرة ومضيئة في حياة المدن العراقية كلها، ذلك انها اول مكان عراقي يؤمن لقاصديه السلم والامان والعيش الكريم والحياة المستقرة، فبعد أن وفرت لها حكومة كوردستان كل ما تحتاج إليه من خدمات، عمد اهلها الى مبادلة هذه الوفرة من الخدمات الى تعزيز اواصر التفاعل في بناء مدينتهم، التي كانت مغيبة لامد طويل في ظل السلطة السابقة، بل انها كانت مركز استياء وقلق تلك السلطة التي ظلت تطارد العقول النيرة التي انطلقت من ارضها .. حتى اضطر عدد كبير من مناضليها الى اخفاء ذكر انتمائهم اليها .. ذلك ان اسم ( عنكاوة ) كان مثار سخط وعداء ونقمة تلك السلطة التي كانت ترى في اهل هذه المدينة مناوئين لتوجهاتها القمعية وظلمها وظلاميتها.
عنكاوة .. باتت عروساً فاتنة تباهي نفسها وتغازل العراقيين في جميع المدن التي انطفأت فيها كل الاضواء ولم تعد تجد سبيلاً الى الاستقرار والى ابجديات العيش البشري ، بسبب الفوضى والفساد وغياب الخدمات والتخلف الذي بات يبسط وجوده على الميادين كافة !
وما كان ليحدث كل ما حدث في العراق، لو لم تكن هناك ( شخصيات ) تخلت عن ماضيها وانسانيتها ودفاترها السابقة، واختارت ان تكون ذاتاً انانية تعيث في الارض فساداً ، دون رادع من قانون ولاضمير!
وبات يستحيل على كل زائر الى إقليم كوردستان .. السكوت عن المقارنة بين مدن الاقليم ومدن العراق كافة وبخاصة العاصمة بغداد .
كل مدن كوردستان تشهد تحولات عمرانية وخدمية هائلة .. وكل قصبة وزاوية وقرية تتوجه اليها الانظار بعدل ومساواة .. كما لو أن كل بقعة كوردستانية هي قلب اربيل والسليمانية ودهوك .
وهذا يعني ان المواطن في كل كوردستان، بات يجد نفسه موضع اهتمام وانتباه ورعاية .. وبالتالي ليس امامه سوى التفاعل مع التجربة السياسية الكوردستانية التي تريد بناء الانسان والوجدان وتعمر له العمران ..
وتحولت عنكاوة الى مكان كوردستاني مضيء، تيح كل الفرص لاهاليها ولقاصديها من المضطهدين ومن كافة الاطياف العراقية، كل الفرص للإنخراط في حياتها المليئة بالحيوية والانشراح والاطمئنان .. وهذا عين العقل وعين المسؤول الوطني النزيه وعين المواطن الذي يبادل الحكومة التي ترعاه كل المحبة والاعتزاز والامتنان والانصهار في مسارها النبيل.
(2)
لم يكن بامكان ( المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية ) التابعة لوزارة الثقافة في كوردستان من اقامة حلقتها الدراسية المعنونة " دور السريان في الثقافة العراقية " لو لم تكن هناك رؤية استراتيجية ثابتة ورصينة تُعنى بجميع القوميات والاديان والأطياف في كوردستان العراق.
صحيح ان وزارة الثقافة في بغداد لها مديرية بأسم ( دار الثقافة والنشر الكوردية ) إلا أن هذه الدائرة الرسمية ظلت مشلولة وشبه معطلة خلال السنوات الثماني المنصرمة .. بسبب عدم اختيار الرجل المناسب لادارتها ودعم وجودها ومن ثم لا يمكن إن نطلب من الفراغ ان يملأ الكون حركة، ولا ممن لا يملك شيئاً ان يحمل قوس قزح اليها في حجراتها .. في حين تريد وزارة الثقافة العراقية من ـ فاقد الشيء ان يعطيها كل شيء!!
في حين كان كاتب هذه السطور قد قدم ( متبرعاً) دراسة وافية تتعلق بامكانية تحويل هذه المديرية الى ( دار الثقافات الوطنية) الا ان تلك الدراسة ظلت مطوية منذ أمد طويل ولم تزل ..
في عين الوقت نجد هذه المديرية السريانية قد ملأ وجودها الزمان والمكان .. حيث زرعت في المكان المناسب لهذا الوجود.. بين اهلها والناطقين والمعنيين بها في عنكاوة ، وتم انتقاء مدير عام انموذجي لقيادتها .. فهو قاص وروائي واكاديمي سرياني ، وله منجزه الثقافي والابداعي وترجماته الراقية التي اسهمت في اغناء الحركة الثقافية ليس في كوردستان وحدها وانما في عموم العراق ..
لذلك نجد في انتقاء د. سعدي المالح ، مفتاح امان وموضع ثقة في قدرة هذا الرجل على تقديم منجز ثقافي حقيقي .. انموذجه هذه الحلقة الدراسية التي اصطف على الاسهام فيها نخبة من المثقفين والنقاد من الاطياف العراقية كافة .
وبذلك تمكنت هذه المديرية من تسليط الاضواء على ثقافة سريانية ظلت مغيبة لا يطولها الضوء ابداً ..
ولم يكن ذلك لينجز ويصبح حقيقة ملموسة لو لم تتضافر جهود عدة لانجاحه وفي المقدمة منها .. السياسة الوطنية الكوردستانية التي تعلمت من اضطهادها القومي الكوردي السابق .. وتمكنت من تحويله الى تجربة حية تعمل على احترام ورعاية وتعزيز وجود جميع القوميات والاطياف الدينية بوصفها مكونات كوردستانية يمكن ان تسهم مساهمة فعالة في بناء وتعزيز ازدهار كوردستان ..
ومثل هذا الوعي النابه والمسؤول، كانت السياسة العراقية بها حاجة ماسة واساسية اليه، بوصفه استراتيجية تعنى بالعراقيين كافة .. اياً كانت طوائفهم وقومياتهم وانتماءاتهم الفكرية .. لا ان تعمد الى رعاية محدودة والتي عن شرائح اجتماعية عراقية .. هي جزء من مكونات الشعب العراقي الذي نشهد تمزقه ومن ثم تدميره ونشر الفوضى والفساد والجريمة في ربوعه .. التي لم تعد ربعاً الإ لخل حبيب !!
(3)
المفاجأة التي تواجه الفتى العراقي ، والبغدادي القادم من العاصمة المطفأ نورها ، تكمن في وجوده في مدينة اوربية حديثة ، وليس في ( ناحية ) من انحاء العاصمة الكوردستانية البهية اربيل .
كل شيء في (عنكاوة) أو عمكو كما جاء اسمها منقوشا على الحجارة منذ القدم، نبيل له علاقة بالحياة الرغيدة لشعبها وللإنسانية جمعاء .. حتى صار حلمها حقيقة .. ويذكر أن عمّا التي هي الجذر والأصل لاسم البلدة تعني الشعب.
وباتت عين هذا الشعب الساهرة .. تملأ الكون بهاء وفتنة .. تغسل عيوننا وتكحلها بألق التاريخ ، وليس امامها الا ان تعطر نفسها بحدائق النور التي نراها في صباحات الناس وهي تبتسم، وفي حركة العمران ليكون بديلاً عن ذاك الخراب ، وتعيد للشجرة امجادها التي كانت السلطة السابقة قد احترقتها وحالت دونها الانفاس ..
المسيحيون في ( عنكاوة ) قوم متسامحون مع من خاصموهم .. وتسامحهم صادق ونبيل .. وينظرون اليه ويعملون على وفقه .. كما لو انهم خاصموا يوماً ما انفسهم .. ومن ثم لابد ان يسامحوا النفس ويعملوا على التفاعل معها .
المسيحيون هنا ..لم ينكمشوا على انفسهم ابداً ، ولم يكونوا ضداً لاحد وليست لهم خصومة مع احد ، ولايكنون الحقد والضغينة والبغضاء لاحد .. لكن هذا ( الاحد ) الذي لا قدرة له على مواجهة نقدية لاخطائه واحقاده .. ظل يعيش في واقع ظلامي لايحس بثقله على نفسه وقومه وعالمه ..
من هنا .. بدأت الفرقة والخصومة والاحقاد .. وكان الوليد كما هو متوقع .. مشوهاً حاقداً مأزوماً .. لا قدرة له على معايشة احد باستثناء ذاته المريضة .
الناس في عنكاوة .. لم ينسحبوا الى ذات المنطقة الظلامية الصدئة، وانما راحوا يسهرون على فكر ينير لهم ولخصومهم سبل الحياة الرغيدة الآمانة .. بعيداً عن كل ما يثير الاحقاد والفتنة والفوارق بين البشر ..
ولو ادرك ( جمع الايمان ) ان الايمان الحقيقي في رضا الدنيا والاخرة، لكان احترام الانسان في مقدمة هذا الايمان الذي يجد في خلق الله نقاء وبهاء واماناً وهناء يكفل للجميع الحياة المنشودة .
سكان عنكاوة .. كانوا قد ادركوا هذه الحقيقة من قبل ومن بعد ، لذلك صارت مدينتهم جنان عقولهم ونفوسهم ونبض قلوبهم ..
وبعد ان اصطفوا جمعاً .. اصطفوا على حقيقة ان السلام هو السبيل الوحيد والامثل لوجودهم ووجود سواهم في الوقت عينه .. وهذا مايراد رؤيته من قبل الجميع ..
(4)
يضطر الزائر الى عنكاوة إلى المقارنة .. ولايخرج منها الا مفتوناً بالناس وبالمكان وبالساهرين على الامن والسلام السائدين فيها ..
ذلك ان معظم الذين يعيشون في عنكاوة .. اناس اضطهدوا في موطنهم الاصلي ، او تم التضييق عليهم بسبب اختلافاتهم العقائدية لاغير ..
لكنهم لم يحولوا هذا الاضطهاد والذي هربوا من بطشه .. الى حقد ونقمة ونكد امام حياتهم الجديدة ، بل حولوه الى واقع نتلمس من خلاله الطمأنينة والمحبة والعيش السعيد ..
وحين اقامت المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية حلقتها الدراسية المتعلقة بـ ( دور السريان في الثقافة العراقية ) تبيّنا جملة حقائق وجملة تجارب وجملة نجاحات يراد منا وضعها بوضوح امام القائمين على الحركة الثقافية الوطنية في العراق وفي المقدمة منها وزارة الثقافة ..
كانت هذه المديرية السريانية قد اعدت برنامجاً مملوءاً ومتنوعاً .. يتميز بحدته ورصانته بحيث اغنى كل الالوان الثقافية السريانية من قصة ورواية ومسرح وسينما وتشكيل الى جانب الدراسات التاريخية والفكرية التي عملت على تجذير الوجود السرياني الاصيل في العراق ولم تغفل هذه المديرية شاردة وواردة الا وذكرت في هذه الحلقة الدراسية التي شهدت حضوراً عراقياً شاملاً اكثر منه سريانياً او كوردياً .. وتحولت هذه الحلقة الدراسية الى ورشة عمل حقيقية وصادقة لايراد منها ان تكون اعلامية مجردة من المحتوى، وانما الى عطاء مخلص ووفي مع الثقافة والناس معاً .. وهو عين العقل وعين المسؤولية التي افتقدناها منذ زمن بعيد ، بحيث بتنا لانشهد من (المهرجانات العالمية) التي تقيمها ( المؤسسات الثقافية) في بغداد وعدد من المدن سوى الدعاية والاعلام، في وقت تغيب فيه ابسط العطاءات المحلية .. ناهيكم عن ( العالمية) التي يفتن بريقها عيون المسؤولين الذين يوهمون انفسهم انهم قد جاءوا بالعالم المتحضر .. صاغراً راكعاً ومعجباً مفتوناً بالمنجزات التي حققناها على الاصعدة كافة .. في وقت نعرف فيه جميعاً اننا نخادع انفسنا ونخادع العالم من حولنا .. ذلك اننا نعيش على هامش الحياة وعلى قدر متواضع جداً مما تبقى للانسان ان يحيا حياة لا ( حصة ) له فيها ولا ظل يستظل به .
المشهد السرياني عبر مديريته العامة .. كان حاضراً وبرؤوس مرفوعة على نحو اداري مرموق وعطاء مسؤولية ودراية يمكن ان تكون منطقة ضوء نتعلم منها .. ولاعلينا من مفاهيم مقفلة تبقى محاصرة بمفاهيم الاقلية والاكثرية ، ومن ثم لايمكن للقليل ان يتعلم من الكثير على الرغم من شعور هذا الكبير ... انه اصغر من ان يتعلم .. والصغير اكبر من الشعور باليأس والاحباط والتهميش ..
هذا هو الفرق بين من يريد ان يتعلم ويعلم ، وبين من يجهل ويظل في حالة من الجهل !