في ذكرى إستشهاد أمير الشهداء البطريرك مار بنيامين شهيد الأمة والكنيسة
ولد مار بنيامين في عام 1887، وفي الثاني من شهر آذار من عام 1903 رسم مطراناً من قبل عمه البطريرك مار روئيل شمعون، وبعد انتقال هذا الأخير الى الحياة الأبدية، رسم مار بنيامين بطريركاً على كنيسة المشرق في الثلاثين من شهر آذار من نفس السنة وهو شاب يافع لم يتجاوز عمره أكثر من ستة عشر عاماً، غير أن معظم الذين عاصروه أكدوا بأنه كان يمتلك عقلاً نيراً وحكمـة بالغة وسلوكاً قويماً ووعياً ناضجاً وكأنه رجل في الأربعين من العمــر، كما يوصف بأنه كان سليم الجسم كسلامة عقله يتميز بكرامة واسعة وشهامة بالغة وشجاعة فائقة بحيث لم يكن يعرف معنى للخوف خاصة عندما تكون المسألة متعلقة بأبناء شعبه، وكان موضوع ثقة كبيرة ليس عند الآشوريين والمسيحيين فحسب وإنما أيضا عند الكثير من العشائر الكردية وزعمائهم الذين كانوا يؤتمنون حكمتـه وعدالته ويلجؤون إليه لفض نزاعاتهم ويحترمون قراراته، ففي الكثير من المرات استطاع أن يحل أصعب الخصومات والنزاعات وأن يعقد بينهم العدل والتفاهم، كما كانت له مكانة خاصة ومتميزة عند السلطات المركزية والمحلية يولونه احتراماً شديداً. ويؤكد المؤرخون بأن بعض العشائر الكردية المسلمة في عهد مار بنيامين كانت تأكل لحوم الحيونات المذبوحة من قبل عائلته وتعتبره لحملاً حلالاً غير محرماً كما هي العائدة عند المسلمين. هذه الصفات الفريدة والمكانة المتميزة التي كان يتمتع بها البطريرك مار بنيامين هي التي أدت إلى ازدياد حسد وهيجان بعض زعماء الأكراد المتطرفين والحاقدين عليه وعلى الآشوريين من أمثال المجرم سمكو أغا زعيم قبائل الشيكاك الكردية المتطرفة.
لهذا السبب عندما أنتقل أمير الشهداء إلى عالم الخلود لم يكن هناك أي شخص آشوري، سواء الذين خلفوه في كرسي البطريركية أو في قيادة الأمة يستطيع أن يحل مكانه ويجمع أبناء الشعب تحت قيادة موحدة. كان وبحق آخر قائد آشوري كنسي وقومي قادر على جمع شمل الآشوريين وأبناء طائفته تحت لواء قيادته التي لم تكن في يوم من الأيام قيادة منفردة أو متسلطة. فقد عرف عنه بأن معظم القرارات التي أتخذها تمت بعد التشاور والتباحث مع زعماء العشائر "ماليك"، الذين كانوا يشاركون في مجلسه باعتبارهم أعضاء في المجلس القيادي للأمة. من هذا المنطلق يقول المؤرخ الآشوري الشماس كوركيس بنيامين في كتابه ( رؤساء الآشوريين في القرن العشرين) المكتوب باللغة الآشورية الحديثة "بأن لو لم يكن الآشوريون قد فقدوا مار بنيامين في تلك الفترة لربمـا كانت مسيرة تاريخ أمتنا قد تطورت بشكل آخر، ومن دون أدنى شك كانت بشكل احسن مما هو عليه الآن لأنه بالتأكيد ما كان سيسمح للانتهازيين أن يلعبوا لعبتهم كما فعلوا بعد الحرب العالمية الأولى وكما يفعلون اليوم" (ص25).
نشأ مار بنيامين وترعرع في بيئة دينية وقومية وتربى على المثل العليا في الفداء والتضحية وتمثلت فيه روح الأباء والأجداد العظام في تحمل الصعاب والمشاق ونكران الذات والتضحية في سبيل الأمة والكنيسة. فبالرغم من كونه في العقد الثالث من عمره، استطاع قيادة الآشوريين في أحرج الظروف وأصعبها نحو الخلود وديمومة التواصل التاريخي رغم كل المأساة والفواجع التي أفرزتها الحرب الكونية الأولى ونتائجها المؤلمة التي فرضت قسراً وظلماً على الآشوريين، كالجلاء عن أرض الوطن والابتلاء بالأمراض الفتاكة والمجاعات القاتلة وحملات التنكيل والإبادة الجماعية التي نفذتها السلطات التركية والعشائر الكردية والفارسية المتحالفة معها ضد الآشوريين. فإذا كان عمق إيمانه المسيحي وقوة إلهامه الروحي ووسع معارفه اللاهوتية قد أهلته اعتلاء كرسي بطريركية كنيسة المشرق فأن ذكاءه الحاد وفطنته السياسية وحبه اللامتناهي لأمته وشجاعته القومية التي لم يعرف لها حدود، كانت كلها عوامل وضعته في قمة قيادة الانتفاضة الآشورية ضد الدولة العثمانية أبان الحرب العالمية الأولى والسعي بكل إخلاص وتنافي من أجل تحقيق مصير شعبه والعيش بأمن وسلام .
كان مار بنيامين من بين القلائل الذين يدركون مضامين السياسة الشوفينية للدولة التركية ومغزاها الاستراتيجي القائم على أبعاد عنصرية تتخطى كل الحدود الإنسانية والأخلاقية، خاصة بعد استلام حزب الاتحاد والترقي التركي، والمعروف أيضا بـ " تركيا الفتاة"، مقاليد السلطة في الدولة العثمانية عام 1908 والمعروف بسياسته في تتريك الأقوام غير التركية. فقبل حول نهاية القرن التاسع عشر خسرت الدولة العثمانية معظم مستعمراتها في شمال أفريقيا على اثر هزيمتها أمام الدول الأوربية التي سيطرت على تلك المنطقة، كما تقلص نفوذها في شرق أوربا وبشكل خاص بعد استقلال معظم دول البلقان نتيجة تصاعد حركات التحرر القومي في تلك المنطقة مما حدا بالدولة العثمانية إلى تعويض عن هذه الخسائر بتوجيه أطماعها نحو الشرق لتحقيق الأحلام العنصرية لحزب الاتحاد والترقي في إقامة الإمبراطورية الطورانية تشمل معظم مناطق بيت نهرين وفارس وبلدان آسيا الوسطى وباكستان وأفغانستان وحتى الهند . ومن الضروري الإشارة بأن شعوب هذه المناطق المسلمة وغير التركية لم تكن تشــكل، حسب اعتقاد الدولة التركية، أي عائق أمام تحقيق سياستها في تتريكهم وذلك بسبب عامل الدين المشترك وضمن مفهوم الخلافة الإسلامية أو تحت لواء الجامعة العثمانية، في حين شكلت الشعوب المسيحية الأخرى كالآشوريين والأرمن والروس عائقاً أمام تطبيق سياسة التتريك ودمجهم في الإمبراطورية الطورانية المسلمة لذلك وجدت في سياسة الإفناء والإبادة الجماعية والحروب المقدسة " الجهاد" ضد هذه الشعوب أو تهجيرها قسراً إلى مناطق أخرى، الوسائل الممكنة لإزاحتهم عن طريق تحقيق أحلامها الشوفينية، كما وجدت في الحرب الكونية الأولى الفرصة المثالية لتنفيذ هذه السياسة .
وفعلاً عندما أعلنت الدولة التركية مذابحها المشهورة في التاريخ ضد الأرمن شملت هذه المذابح الآشوريين أيضاً حيث بدأت القوات التركية وبعض العشائر الكردية المتحالفة معها بشن هجمات على القرى الآشورية الآمنة وحرقها وتشريد سكانها والتنكيل بهم. ويروى بأن أحد المبشرين الأجانب سأل القائد التركي عن سـبب شن حملات الإبادة الجماعية ضد الآشوريين في الوقت الذي يخص قرار (فرمان) السلطة العثمانية الأرمن وحدهم دون غيرهم من المسيحيين، أجاب القائد التركي: " إنني لا أستطيع التمييز بين الروث الجاف والروث الرطب فكلاهما كريــه. هذه السياسة البربرية وضعت الآشوريين وعلى رأسهم البطريرك مار بنيامين في موقف ماحق ومهلك لم يترك أمامه خيارات متاحة سوى خيارين، إما الموت والفناء أو المواجهة والمقاومة لهذه السياسة وبكل الأساليب الممكنة والمتاحة. وفعلاً ففي شهر أيار من عام 1915 اجتمع البطريرك مع بقية الزعماء الآشوريين فاتخذوا قراراً جريئاً وشجاعاً في الانضمام إلى الحلفاء والاشتراك في الحرب ضد الدولة العثمانية وحلفائها بعد أن تأكد له عدم جدوى وقوف الآشوريين جانب الحياد والمذابح تفعل فعلها في أعناق أبناء شعبه المسالم وبعد أن ثبت بطلان وزيف وعود الأتراك والإغراءات المعروضة من مال ومناصب على البطريرك وبقية الزعماء الآشوريين لمنعهم من الاشتراك في الحرب ضدها .
وبعد اشتراك الآشوريين مع الحلفاء في الحرب ومن ثم نكوص وتخاذل روسيا أولاً ثم بريطانيا ثانياً عن الوعود الممنوحة لهم في المساعدة بالسلاح والتموين والإسناد في حربهم ضد الدولة التركية، اصبح الآشوريون منفردين في مواجهة القوات التركية والعشائر الكردية والفارسية الجيدة التسليح، خاصة بعد انهيار الجبهة الشرقية على اثر انسحاب روسيا من الحرب وعقد الهدنة مع تركيا ودول المحور عند قيام الثورة البلشفية الاشتراكية في أكتوبر من عام 1917 ، لذلك تعرض الآشوريون إلى الهجمات الانتقامية الشرسة وأخذت القوات التركية وحلفاؤهم تنكل بهم تنكيلاً وتقتل بهم تقتيلاً من أجل تنفيذ سياسة إفناء الوجود الآشوري من مناطقهم التاريخية، وهي مأساة مفصلة بشكل دقيق في الكثير من الكتب. ففي هذه الظروف المأساوية قاد مار بنيامين شعبه البائس والجائع والمتشرد من منطقة هيكاري إلى منطقة أورمي في شمال بلاد فارس في هجرة جماعية تعتبر وبحق سفر من أسفار اضطهاد ومعاناة الجنس البشري على الكرة الأرضية وهو في بداية قرن جديد لم يعرف الآشوريون منه غير الدمار والتشرد والجوع والأمراض الفتاكة والفواجع المهلكة .
وإذا كان بعض المحللين الذين درسوا تاريخ الآشوريين في تلك الحقبة الزمنية يرون في اندفاع الآشوريين وترك أوطانهم في هيكاري واللجوء إلى أورمي خطأً عسكرياً واستراتيجياً مميتاً كلفهم الكثير، فيــه نوع من القبول من الناحية النظرية العسكرية إلا أنه من ناحية أخرى يفتقر مثل هذا التحليل إلى النظرة الموضوعية التاريخية لطبيعة الشعب الآشوري وللظروف المهلكة التي كانت تحيطه من كل الجوانب بحيث لم تترك له فرصة الاختيار إلا الخيار الأصعب والوحيد ذلك لأن بقاء الآشـوريين مع عوائلهم منفردين ومعزولين عن العالم الخارجي ومحاطين بأعدائهم همهم الوحيد التنكيل بهم وأبادتهم ما هو إلا ضرب من الانتحار الجماعي للأمة وإعطاء الفرصة لأعدائها في تنفيذ سياستهم المرسومة للقضاء على الآشوريين نهائياً. في حين ضمن الآشوريون بلجوئهم إلى المناطق الأخرى بعيدين عن أوطانهم عنصر الحياة والديمومة والتواصل كقومية تاريخية تمتد جذورها لقرون طويلة في التاريخ البشري. فالمقدرة العضوية التي اكتسبها الآشوريون في التكييف والتمحور تجاه المأساة والمعاناة المستديمة والفواجع الاجتماعية والطبيعية عبر تاريخهم السياسي الطويل ضمن لهم عنصر البقاء والخلود وأنطبق عليهم وبحق قانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، مع التحفظ للتفسيرات المختلفة لهذا القانون، وكان مار بنيامين قد أستلهم هذه الحقيقة وأدركها جيداً عندما أختار الخيار الأصعب والقرار الوحيد لأجل إنقاذ شعبه من الدمار الشامل رغم كل الخسائر الفادحة التي كلف اتخاذ مثل هذا القرار، بما فيه خسارة جزء من الوطن، وأقصد هيكاري، لأنه كان يدرك بأن بقاء شعب، مثل الشعب الآشوري الصلد والمقاوم، سيعوض عن هذه الخسائر طالما تمسك بالقيم والمبادئ التي خلقته كأمة خدمت العالم وأعطت للإنسانية كثير الكثير واستطاعت المحافظة على نفسها طيلة قرون طويلة من الظلم والاضطهاد .
ولو حاولنا، بكل موضوعية وبعيداً عن العواطف والمشاعر القومية، دراسة شخصية مار بنيامين كقائد أمة لوجدنا فيه خصال وميزات فريدة في تاريخ هذا الشعب الصغير يستوجبها الكثير من التفاصيل والبحوث ولكن باختصار شديد نشير إلى أهمها:
1) - أدرك مار بنيامين منذ البداية بأنه قائد شعب صغير لا حول له ولا قوة يعيش في مناطق عاصية محاطة بالشعوب المعادية المتعصبة دينياً وقومياً إضافة إلى كونه شعب لا يرتبط لا عقائدياً، أقصد كنسياً كالكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، ولا قومياً بالشعوب والدول الأخرى لكي تساعده وتستجيب لحمايته عند تعرضه للاعتداء. لهذه الأسباب وجد في العامل الموضوعي الجيوبولوتيكي سبباً رئيسياً للتحالف مع روسيا باعتبارها أقرب الدول العظمى التي يمكن أن توفر المساعدة والحماية للشعب الآشوري في المنطقة. ومن الملاحظ بأن هذا العامل الموضوعي الجغرافي في التحالف مع روسيا تتبين أهميته من خلال عدم تأثره بالمبادئ السياسية والفكرية خاصة عندما ندرك بأن مار بنيامين أستمر التراسل مع لينين زعيم الثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر عام 1917 من أجل ضمان التحالف معها ضد العدو المشترك.
2 ) - عرف عن مار بنيامين بحساسية شديدة ومفرطة تجاه المبشرين من الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية الروسية، وهي مسألة طبيعية لرجل مسؤول يتربع على كرسي البطريركية كان يشاهد بألم ويتحسس بمرارة نهش المبشرين أوصال كنيسته ورعيته الصغيرة من دون أن يستطيع عمل شيء أو يوقف نشاطهم الذي تطاول حتى بيت البطريرك نفسه خاصة عندما أعتنق عمه نمرود وجميع أفراد عائلته المذهب الكاثوليكي. ولكن مع كل هذا، كان للعامل القومي لديه اعتباراً أساسياً وفوق جميع الاعتبارات عندما تكون المسألة متعلقة بتقرير مصير شعبه. من هذا المنطلق لم تمنع كاثوليكية أغا بطرس من أن يجعله قائداً عسكرياً مقرباً إليه يعتمده في معظم مهماته القومية والعسكرية كما لم تمنع أرثوذكسية فريدون أتورايا في أن يتفهم مشاريعه القومية وأن يكون له مكانة متميزة عنده، وهي حقائق حاول بعض أفراد عائلة البطريرك ومن القطب المؤيد لبريطانيا، أمثال سورما خانم شقيقة البطريرك واخوها داود شقيق البطريرك، تزيفها وتحريفها بقصد الإساءة إلى هذين الزعيمين القوميين واتهامهما بمختلف التهم، وبتخطيط من الإنكليز، منها زعمهم بأن هؤلاء يحاولون تجريد مار بنيامين من زعامة الأمة والاستلاء عليها من قبل "أبن الأرملة" و "الشيوعي الغوغائي" كما أشيع عن هذين الزعيمين القوميين. كل هذا من أجل إفشال أي تقارب مع روسيا وضمان التحالف مع الإنكليز، وهي المهمة التي نجحوا فيها في الفترات اللاحقة، خاصة بعد التخلص من فريدون أتورايا وأغا بطرس والقضاء عليهما.
3) – عند الحديث عن مار بنيامين كزعيم لأمة أستشهد من أجلها يجب أن نتجرد من الشمول والإطلاق وأن لا نقيس أعماله بمعاييرنا السياسية والقومية السائدة في هذا اليوم، بل يجب قبل كل شيء أن نضع في عين الاعتبار منصبه الديني باعتباره بطريركاً لفرع من كنيسة المشرق الممزقة له التزامات ومسؤوليات تجاه رعيته تنتظم بالقانون العثماني المعروف بـ "نظام الميليت". لهذا السبب كان مار بنيامين شديد الذكاء والحذاقة في مهماته القومية والسياسية بحيث عرف حدود مهماته هذه بكل دقة وتابعها في كل أقواله وأعماله. من هذا المنطلق لم يشمل في دعواته في تحرير وتقرير مصير طوائف الفروع الأخرى لكنيسة المشرق احتراما لغيره من البطاركة وتقديراً لموقفهم من سياسة الدولة التركية تجاه أبناء الأمة جميعاً. فواجب كل بطريرك كان يستوجب الدفاع عن رعيته، وهذا ما فعل مار بنيامين الذي ضحى بحياته من أجلها.
4 – مسألة أخرى يجب أن لا تفوتنا، بل يستوجبها الإشارة ولو كانت بسيطة ولكن غير معروفة للكثير من الآشوريين، وهي انقطاع أو توقف نظام التوارث لكرسي البطريرك في كنيسة المشرق في عهد مار بنيامين والمعروف بـ " ناطر كرسي". إذ هناك غموض أو قلة المعلومات فيما إذا كان مار بنيامين فعلاً "ناطر كرسي" عندما توفي عمه البطريرك مار روئيل، وأصبح هو البطريرك، أم كان هناك "ناطر كرسي" آخر من نفس البيت وتحديداً أحد أبناء عمه نمرود ؟. كما أنه من المعروف بأن مار بنيامين لم يكن له "ناطر كرسي" وعند استشهاده فخلفه أخوه مار بولص الذي أيضاً عندما توفي لم يكن له "ناطر كرسي"، وعندما رسم مار شمعون إيشاي، وهو طفل في الثانية عشر من العمر، لم يكن هو"ناطر كرسي" ولا غيره وحتى عندما قتل في عام 1975 لم يكن هناك "ناطر كرسي" يطالب بالبطريركية، عند ذاك انقطعت سلسلة بيت أبونا من البطريركية.. إن هذا النظام أي "ناطر كرسي" الذي نشأ بسبب جملة عوامل موضوعية وظروف خاصة خارجة عن إرادة أبناء الأمة والكنيسة، فإنه بالرغم من سلبياته في الفترات اللاحقة، إلا أنه يجب أن لا ننكر بأنه كان له دوراً كبيراً في حماية استقلال الكنيسة ومنع الحكام من التدخل في اختيار البطاركة ورسامتهم. ترى هل أدرك مار بينامين بأن هذا النظام لم يعد له أهمية في الكنيسة ومن ثم يستوجب إبطاله ؟؟ أم كانت هناك ظروف خاصة واستثنائية أملتها عوامل الحرب والتشرد والنزوح للحيلولة دون تطبيق هذا النظام ؟؟؟. أسئلة وأسئلة أخرى يتطلبها الكثير من البحوث والدراسات لهذه المسألة الحساسة التي عصفت في يوم ما بالكنيسة ومزقتها إلى شطرين. وهناك تأكيد في هذا الشأن من سورما خانم في أحدى كتبها بأن الظروف القاسية والمهلكة التي أحيطت بالآشوريين في تلك الأزمان وبالعائلة البطريركية لم تكن تسمح بتنظيم أمور موضوع ناطر كرسي لسدة البطريركية.
كان مار بنيامين في عصر زمانه يجسد وبحق وصدق أسطورة التضحية والفداء في سبيل الكنيسة والأمة التي كتبها قبله أجداده الأبرار بدمائهم الزكية الطاهرة ويكمل ما شرع به مار شمعون برصباي بطريرك كنيسة المشرق في القرن الرابع الميلادي الذي جعل قرباناً لمبادئه وأيمانه بكنيسته وشعبه. وتتجلى عظمـة وتضحية مار بنيامين في كل يوم من أيام حياته القصيرة وفي كل موقف من مواقفه البطولية، وبعض الأمثلة التاريخية تؤكـد هذه الحقيقة :
1 - عندما أدركت السلطات التركية عدم إمكانية خداع وإقناع مار بنيامين في استمالته إلى جانبها ضد دول الحلفاء أو إبقاءه على الأقل على الحياد رغم كل الإغراءات والامتيازات التي وعدته بها له ولزعماء العشائر وللأشوريين، لجأت إلى وسائل الضغط والإكراه فوجدت في اعتقاله بتهمــة الخيانة والتحريض على الحرب أو اغتياله الوسائل الممكنة في منع الآشوريين دخول الحرب مع الحلفاء ضدها لأن الحكومة التركية أدركت بأن القضاء على البطريرك، هذا الشخص بالتحديد ، سيكون بمثابة الضربة الماحقة للآشوريين للاستسلام والخضوع. غير أن الإجراءات الاحتياطية التي اتخذتها القيادة الآشورية بنقل مقر البطريرك التقليدي في قرية قوجانس إلى منطقة ديز حال دون ذلك. ثم وجدت في أخيه هرمز الأصغر الذي كان يدرس حينذاك في أسطنبول وسيلة أخرى للضغط على مار بنيامين لتغيير قرار المشاركة في الحرب. ففي منتصف شهر آب 1915 أنذرته السلطات العثمانية بأن أخاه هـرمز اصبح رهينة في يدها وسوف يعدم إذا لم يستسلم مار شمعون مع زعماء الآشوريين إلى الأتراك ويمتنعون عن الاشتراك في الحرب ضدها فكان جواب البطريرك في رسالة وجهها إلى السلطات التركية تعبيراً عن موقفه البطولي واستعداده الدائم للتضحية والفداء حين قال كلمته التاريخية المشهورة التي لا يزال صداها يرن في أذان كل مناضلي هذا اليوم .. " إني قائد شــعبي وهم أولادي كثــار فكيف أستطيع أن أسلم شعبي من أجل أخي هرمز فهو شخص واحد فقط فلتكن حياته قرباناً لامتــه ". ثم بعد ذلك جلب هرمز إلى مدينة الموصل واعدم، أو ربما كان قد قتل ثم جلب إلى الموصل وعرضت جثته بالقرب من القرى المسيحية كوسيلة أخرى للإرهاب والتخويف. ولا أحســب وجود مشقة وعناء في استقصاء عبر البطولة العجيبة لمار بنيامين وقدرته على التضحية في سبيل شعبه وكنيسته من كلمته هذه، خاصة عندما اعتبر كل الشعب الآشوري أولاده قولاً وفعــلاً. كما لا أحسب، إذا نظرنا للمسالة بنظرة موضوعية حيادية بعيدة عن عواطفنا وتصوراتها، وجود ملحمة بطولية من هذا النوع من التضحية حتى في الشعوب الأخرى خاصة عندما نعرف العلاقة القوية الحميمة التي كانت تربط مار بنيامين بأخيه هرمز، فكان من أقرب أفراد عائلته إليه يرافقه في الكثير من جولاته ومهماته. من هذا المنطلق نقول بأن اتخاذ مثل هذا القرار لم يكن بالأمر الهين بل يفوق التصور الإنساني .
2 - وفي نفس الشهر من نفس العام سافر مار بنيامين إلى مقاطعة أورمي في شمال بلاد فارس (إيران) للالتقاء والاجتماع بقيادة الجيش الروسي في مدينة سلامس لبحث موضوع الوعود والمساعدات الروسية الموعودة للآشوريين وحسب الاتفاق المعقود بين الطرفين. وفي طريق السفر وعبر الجبال العاصية والغابات الموحشة تعرض إلى هجمات قطاع الطرق والى مطاردات القوات التركية وغارات العشائر الكردية وبعد مشاق الطريق الذي أستمر عدة أيام وليالي، لم تكن نتيجة الاجتماع مع قيادة الجيش الروسي غير وعود جوفاء لم يحصل الآشوريون منها شيئاً غير المزيد من المأساة والفواجع. وأثناء الاجتماع حاولت القيادة الروسية إقناع البطريرك بالبقاء في سلامس تحت حمايتهم وتوفير الأمن والإقامة الآمنة له لضمان حياته من خطورة العودة إلى شعبه المعزول والمحاصر من قبل الأعداء، غير أنه أبى ذلك ورفض بشدة محاولات الروس حيث فضل الموت بين أبناء شعبه على العيش الرغيد بعيداً عنهم، فقال للقائد الروســي كلمة أذهلته وأذهلت المجتمعيــن أيضاً : " جئت لأنقذ شعبي لا لأنقــذ نفســي فأنا عائد إليه حتى أعيش أو أموت معه " فقفــل راجعاً متحملاً مشــاق الطريق الطويل والصعب ومخاطر نيران أسلحة الأعداء .
مرة أخرى نتلمس بكل وضوح وجلاء استعداد مار بنيامين للتضحية، لا بأخيه فحسب بل بنفسه أيضاً من اجل شعبه ومن أجل أن يكون قريباً منه رغم شبح الموت الذي كان يخيم عليه مفضلاً الموت معه بدلا من أن يعيش هانئاً أمناً ولكن بعيداً عنه، ذلك لأن البطريرك البطل كان يشعر بأنه منه واليه يعود مهما كانت العوائق والمصاعب ومهما كانت المغريات والحوافز المعروضة عليه لإبعاده عنه. هذه الصفات هي التي أدخلت مار بنيامين في التاريخ الآشوري ومن أبوابه الواسعة وأصبح رمزاً قومياً ودينياً لأبناء أمتنا، وهي الصفة التي تجعله وبكل حق وأنصاف الزعيم العضوي للآشوريين في هذا القرن، أي الزعيم الذي كان جزء من الأمة، والأمة جزء منه لأنه لم يكن متصوراً إطلاقاً إمكانية العيش في الخارج أو بعيد عن شعبه وهي الفرصة التي أتيحت له في العديد من المرات ولكن رفضها لأنها كانت بمثابة خيانة للشعب وكفر بالله وبرسالة ربنا يسوع المسيح الذي عاش ومات من أجلنا جميعاً. هكذا يؤكد التاريخ الآشـوري بأن ضياع مار بنيامين كان يعني تشتت الأمة وتحطم نسقها الاجتماعي بين أمواج الحرب العالمية الأولى وبالتالي فرضت المأساة فرضاً مميتاً على أبناءها وشتتهم في مختلف زوايا العالم خاصة بعد أن عجزوا في إيجاد زعيم قومي وديني يوازي عظمة أمير الشهداء مار بنيامين.
3 - في بداية شهر آذار، وتحديداً في الثالث منه، وفي اليوم الأول من الصوم الكبير عام ،1918 عقد اجتماع بين البطريرك الآشوري مار بنيامين والزعيم الكردي إسماعيل الشيكاكي، والمعروف بـ " سمكو " زعيم قبائل الشيكاك الكردية المتطرف والمشاكسة لبحث موضوع تحالف الشعبين ضماناً للأمن والاستقرار وتمهيداً لتطبيق حقهم في تقرير مصيرهم القومي بأنفسهم في ضوء المصالح المشتركة بين الشعبين والتي أفرزتها أوضاع ونتائج الحرب العالمية الأولى. وكانت روسيا البيضاء تستهدف من هذا التحالف والتي سعت إلى ترتيبه ضمان الاستقرار في هذه المنطقة تمهيداً للسيطرة عليها عن طريق استخدام تحالف الآشوريين والأكراد لضرب القوات التركية وإيجاد موطئ قدم لها بعد الخسائر التي منيت بها من جراء وصول الشيوعية إلى السلطة في موسكو. كما لعبت الاستخبارات البريطانية دوراً كبيراً في تشجيع سمكو للاجتماع بمار بنيامين وعقد تحالف معه وذلك من اجل استغلال وحدة قواتهم لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة خاصة بعد أن وضعت ثقتها بسمكو الذي كان قد حلف على القرآن بأن يكون وفياً ومخلصاً للإنكليز وان يسعى بكل شرف وأمانة للاجتماع بالبطريرك الآشوري لعقد الحلف المنشود. غير أنه من جانب آخر كان مار بنيامين قد أدرك أهمية هذا التحالف مع الأكراد لضمان الأمن والسلم لشعبه التعيس، بالرغم من الخلفية العدائية بين قبائل الشيكاك والآشوريين والتحذيرات التي انذر بها مار بنيامين من أن محاولة اغتياله قد تكون مدبرة خلال الاجتماع للتخلص منه ومن إصراره على مواصلة النضال حتى أن ينال شعبه حقه في موطنه الذي طرد منه، غير أن كل ذلك لم يمنع البطريرك من الذهاب قدماً لان حبه وتفانيه من اجل إسعاد شعبه كان أقوى بكثير من مخاوف اغتياله لهذا وهب حياته ورخص دمه ذخراً وفداءً لأبناء شعبه عندما اغتيل غدراً وخيانةً من قبل المجرم سمكو بعد انقضاء الاجتماع، وهي ملحمة مأساوية في تاريخ الآشوريين ومعروفة للكثير منهم. وقد ثبت فيما بعد تورط الحكومة الفارسية في عملية اغتيال البطريرك عندما عثرت القوات الآشورية التي هاجمت مقر سمكو على كتاب من حاكم تبريز يحث فيه سمكو على قتل مار بنيامين مقابل وعود واغراءات قدمتها الحكومة الفارسية لسمكو لان هذه الحكومة كانت أكثر إصراراً على التخلص من مار بنيامين بسبب رفضه تجريد شعبه في أورمي من الســلاح لحين ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، لا بل فقد كانت المصالح الفارسية والتركية والكردية والإنكليزية كلها قد التقت واجتمعت في نقطة واحدة، وهي لا يمكن كسر شوكة الآشوريين وسحق صمودهم وإصرارهم على استرجاع حقوقهم المفقودة إلا بالقضاء على زعيمهم مار بنيامين والتخلص منه خاصة بعد أن فشلت المحاولات الأخرى، وهي المصالح التي تحققت فعلاً بعد استشهاد البطريرك.
ومن سخرية الأقدار، رغم كثرة محاولات القوات الآشورية في تلك الفترة من القضاء على سمكو ورغم الخسائر الكبيرة التي كبدوها لعشيرته وأملاكهم، إلا القدر حكم حكمه ليقضى على سمكو بنفس الطريقة التي أغتال مار بنيامين ومن قبل نفس الجهة. لم تهدأ الأمور بسمكو بعد الحرب الكونية الأولى فلم يتوانى من إستغلال ضعف الدولة الفارسية في مناطقها الشمالية فقام سمكو بمحاولات إخضاع العشائر في تلك المناطق غير أن السلطات الفارسية جردت عام 1922 حملة عسكرية ضخمة ضده فقضت على حركته غير أن سمكو بمكره المعروف تمكن من الفرار إلى منطقة راوندوز في شمال العراق والإختباء هناك. فوضعت الحكومة الفارسية نصب أعينها مسألة القضاء على سمكو بكل السبل فإستطاعت في عام 1930 من إستدراجه إلى منطقة أشنوك شمال بلاد فارس بإغراءات سياسية ووهمية تمنكنت من إيقاعة في الشرك الذي نصب له، فحال وصوله إلى المنطقة المتفق عليها إنهال الرصاص من بنادق القوات الفارسية ليقضي عليه نهائياً. هكذا رسم القدر خطته في قتل سمكو بالأسلوب نفسه الذي أغتيل به مار بنيامين ومن قبل نفس الجهة التي دبرت مؤامرة إغتياله.
لقد كان البطريرك مار بنيامين رمزاً للتضامن الآشوري تنطوي تحت سلطته الدينية والدنيوية وحدة الآشوريين القومية والدينية والفكرية واستطاع أن يجمع ويوحد جميع العشائر الآشورية وان يقودهم لسنوات عديدة حتى استشهاده. فهــو وبحق وجدارة يستحق لقب البطل القومي الآشوري وأميراً للشهداء، وحسناً فعلت كنيسة المشرق الآشورية بإحياء ذكراه في يوم الأحد السابق للصوم الكبير من كل عام واعتباره من شهداء الكنيسة وهي مسؤولية قومية أيضاً ملزمة لكل المنظمات والأحزاب الآشورية لإحياء ذكرى هذا البطل التاريخي في مسيرة النضال القومي الآشوري ويستلزم منهم إقامة صرحاً تذكارياً له في المراكز الدينية والقومية تخليداً لذكرى أمير الشهداء مار بنيامين. كما أنها مسؤولية المفكرين والكتاب الآشوريين للبحث والتنقيب في مغزى البطولة والاستشهاد التي أكدها مار بنيامين في التاريخ الآشوري والتي تعد دروساً في التربية الدينية والقومية وزاداً لكل مناضلي أمتنا في مواصلة مسيرة النضال القومي.
مات واستشهد البطريرك مار بنياميــن ولكن بقـى وسيبقى مدى الدهر حياً خالداً في ضمائر أبناءه.
الجبناء يموتون كل يوم…. والأبطال يبقون خالدون مع خلود الأمة .